فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ}
هو بتقدير القول، أي: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: {انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ به تُكَذّبُونَ} في الدنيا، تقول لهم ذلك خزنة جهنم، أي: سيروا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب، وهو عذاب النار {انطلقوا إلى ظِلّ ذِى ثلاث شُعَبٍ} أي: إلى ظل من دخان جهنم قد سطع، ثم افترق ثلاث فرق تكونون فيه حتى يفرغ الحساب.
وهذا شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب شعباً.
قرأ الجمهور: {انطلقوا} في الموضعين على صيغة الأمر على التأكيد، وقرأ رويس عن يعقوب بصيغة الماضي في الثاني، أي: لما أمروا بالانطلاق امتثلوا ذلك، فانطلقوا.
وقيل: المراد بالظل هنا هو السرادق، وهو لسان من النار يحيط بهم.
ثم يتشعب ثلاث شعب، فيظلهم حتى يفرغ من حسابهم، ثم يصيرون إلى النار.
وقيل: هو الظلّ من يحموم، كما في قوله: {فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ} [الواقعة: 42، 43] على ما تقدم.
ثم وصف سبحانه هذا الظلّ تهكماً بهم فقال: {لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب} أي: لا يظل من الحرّ، ولا يغني من اللهب.
قال الكلبي: لا يردّ حرّ جهنم عنكم.
ثم وصف سبحانه النار فقال: {إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر} أي: كل شررة من شررها التي ترمي بها كالقصر من القصور في عظمها، والشرر: ما تطاير من النار متفرّقاً، والقصر: البناء العظيم.
وقيل: القصر جمع قصرة ساكنة الصاد مثل حمر وحمرة، وتمر وتمرة، وهي الواحدة من جزل الحطب الغليظ.
قال سعيد بن جبير، والضحاك: وهي أصول الشجر العظام.
وقيل: أعناقه.
قرأ الجمهور: {كالقصر} بإسكان الصاد، وهو واحد القصور، كما تقدّم.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، والسلمي بفتح الصاد، أي: أعناق النخل، والقصرة العنق جمعه قصر وقصرات.
وقال قتادة: أعناق الإبل.
وقرأ سعيد بن جبير بكسر القاف، وفتح الصاد، وهي أيضاً جمع قصرة مثل بدر وبدرة، وقصع وقصعة.
وقرأ الجمهور: {بشرر} بفتح الشين.
وقرأ ابن عباس، وابن مقسم بكسرها مع ألف بين الراءين.
وقرأ عيسى كذلك إلاّ أنه يفتح الشين، وهي لغات، ثم شبه الشرر باعتبار لونه فقال: {كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ} وهي جمع جمال، وهي الإبل، أو جمع جمالة.
قرأ الجمهور: {جمالات} بكسر الجيم.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص: {جمالة} جمع جمل.
وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن جبير، وقتادة، وأبو رجاء: {جمالات} بضم الجيم، وهي حبال السفن.
قال الواحدي: والصفر معناها السود في قول المفسرين.
قال الفرّاء: الصفر سواد الإبل لا يرى أسود من الإبل إلاّ وهو مشرب صفرة، لذلك سمت العرب سود الإبل صفراً.
قيل: والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود، ومنه قول الشاعر:
تلك خيلي وتلك ركابي ** هنّ صفر أولادها كالزبيب

أي: هنّ سود.
قيل: وهذا القول محال في اللغة أن يكون شيء يشوبه شيء قليل، فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب لمن قال بهذا، وقد قال تعالى: {جمالة صُفْرٌ}.
وأجيب بأن وجهه أن النار خلقت من النور، فهي مضيئة، فلما خلق الله جهنم، وهي موضع النار حشى ذلك الموضع بتلك النار، وبعث إليها سلطانه وغضبه، فاسودّت من سلطانه وازدادت سواداً، وصارت أشدّ سواداً من كل شيء، فيكون شررها أسود لأنه من نار سوداء.
قلت: وهذا الجواب لا يدفع ما قاله القائل؛ لأن كلامه باعتبار ما وقع في الكتاب العزيز هنا من وصفها بكونها صفراء، فلو كان الأمر، كما ذكره المجيب من اسوداد النار، واسوداد شررها، لقال الله: كأنها جمالات سود، ولكن إذا كانت العرب تسمي الأسود أصفر لم يبق إشكال؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، وقد نقل الثقات عنهم ذلك، فكان ما في القرآن هنا وارداً على هذا الاستعمال العربي.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} لرسل الله وآياته {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} أي: لا يتكلمون: قال الواحدي: قال المفسرون: في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وقد قدّمنا الجمع بهذا في غير موضع.
وقيل: إن هذا إشارة إلى وقت دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون؛ لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت.
وقال الحسن: لا ينطقون بحجة، وإن كانوا ينطقون.
قرأ الجمهور: برفع {يوم} على أنه خبر لإسم الإشارة.
وقرأ زيد بن عليّ، والأعرج، والأعمش، وأبو حيوة، وعاصم في رواية عنه بالفتح على البناء لإضافته إلى الفعل، ومحله الرفع على الخبرية.
وقيل: هو منصوب على الظرفية، والإشارة بهذا إلى ما تقدّم من الوعيد؛ كأنه قيل: هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} قرأ الجمهور: {يؤذن} على البناء للمفعول، وقرأ زيد بن عليّ: {ولا يأذن} على البناء للفاعل، أي: لا يأذن الله لهم، أي: لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن كما لو نصب.
قال الفرّاء: الفاء في فيعتذرون نسق على يؤذن، وأجيز ذلك؛ لأن أواخر الكلام بالنون، ولو قال فيعتذروا لم يوافق الآيات، وقد قال: {لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} [فاطر: 36] بالنصب، والكل صواب.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} بما دعتهم إليه الرسل، وأنذرتهم عاقبته.
{هذا يَوْمُ الفصل جمعناكم والاولين} أي: ويقال لهم: هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، والخطاب في جمعناكم للكفار في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالأوّلين كفار الأمم الماضية.
{فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ} أي: إن قدرتم على كيد الآن {فَكِيدُونِ} وهذا تقريع وتوبيخ لهم.
قال مقاتل: يقول إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم.
وقيل المعنى: فإن قدرتم على حرب فحاربون.
وقيل: إن هذا من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون كقول هود: {فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [هود: 55] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} لأنه قد ظهر لهم عجزهم، وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا.
ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال: {إِنَّ المتقين في ظلال وَعُيُونٍ} أي: في ظلال الأشجار وظلال القصور، لا كالظلّ الذي للكفار من الدخان، أو من النار كما تقدّم.
قال مقاتل، والكلبي: المراد بالمتقين الذين يتقون الشرك بالله؛ لأن السورة من أوّلها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم.
قال الرازي: فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرض، وإلاّ لتفككت السورة في نظمها وترتيبها، وإنما يتمّ النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم، فأما جعله سبباً للطاعة فلا يليق بالنظم كذا قال والمراد بالعيون الأنهار، وبالفواكه ما يتفكه به مما تطلبه أنفسهم وتستدعيه شهواتهم.
{كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يقال لهم ذلك، فالجملة مقدّرة بالقول، وهي في محل نصب على الحال من ضمير المتقين، والباء للسببية، أي: بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} أي: مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المحسنين في أعمالهم، قرأ الجمهور.
{في ظلال}.
وقرأ الأعمش، والزهري، وطلحة، والأعرج: {في ظلل} جمع ظلة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} حيث صاروا في شقاء عظيم، وصار المؤمنون في نعيم مقيم.
{كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} الجملة بتقدير القول في محل نصب على الحال من المكذبين، أي: الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكير لهم بحالهم في الدنيا، أو يقال لهم هذا في الدنيا، والمجرمون المشركون بالله، وهذا وإن كان في اللفظ أمراً فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} كرّره لزيادة التوبيخ والتقريع.
{وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ} أي: وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون.
قال مقاتل: نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة بعد أن أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بها فقالوا: لا ننحني، فإنها مسبة علينا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» وقيل: إنما يقال لهم ذلك في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون.
وقيل: المعنى بالركوع: الطاعة والخشوع.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} بأوامر الله سبحانه ونواهيه {فَبِأَيّ حديث بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي: فبأيّ حديث بعد القرآن يصدّقون إذا لم يؤمنوا به.
قرأ الجمهور: {يؤمنون} بالتحتية على الغيبة.
وقرأ ابن عامر في رواية عنه، ويعقوب بالفوقية على الخطاب.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بِشَرَرٍ كالقصر} قال: كالقصر العظيم، وقوله: {جمالة صُفْرٌ} قال: قطع النحاس.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وهناد، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه من طريق عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس يسأل عن قوله: {إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر} قال: كنا نرفع الخشب بقدر ثلاثة أذرع أو أقلّ، فنرفعه للشتاء، فنسميه القصر.
قال: وسمعته يسأل عن قوله: {جمالة صُفْرٌ} قال: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى يكون كأوساط الرجال.
ولفظ البخاري: كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه القصر.
{كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ} حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أنه قرأ: {كالقصر} بفتح القاف والصاد.
وقال قصر النخل يعني: الأعناق.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: كانت العرب في الجاهلية تقول: أقصروا لنا الحطب، فيقطع على قدر الذراع والذراعين.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط عن ابن مسعود في قوله: {تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر} قال: إنها ليست كالشجر والجبال، ولكنها مثل المدائن والحصون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {كالقصر} قال: هو القصر، وفي قوله: {جمالة صُفْرٌ} قال: الإبل.
وأخرج الحاكم وصححه من طريق عكرمة قال: سأل نافع ابن الأزرق ابن عباس عن قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} و{لا تُسْمِعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه: 108] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الطور: 25] و{هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه} [الحاقة: 19] فقال له: ويحك هل سألت عن هذا أحداً قبلي؟ قال: لا، قال: أما أنك لو كنت سألت هلكت، أليس قال الله: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] قال بلى، قال: فإن لكل مقدار يوم من هذه الأيام لوناً من الألوان.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ} يقول: يدعون يوم القيامة إلى السجود، فلا يستطيعون من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة المرسلات:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً}
إقسام بالرياح المرسلة متتابعة كشعر العرف. أو بالملائكة المرسلة بأمر الله ونهيه، وذلك هو العرف. أو بالرسل من بني آدم المبعوثة بذلك.
{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً} أي: الرياح الشديدات الهبوب، السريعات الممرّ.
{وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً} أي: الرياح التي تنشر السحاب والمطر، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، وقوله: {الله الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء} [الروم: 48]، أو الملائكة التي تنشر الشرائع والعلم والحكمة والنبوة والهداية في الأرض {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} أي: الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال الوحي والتنزيل. أو الآيات القرآنية التي تفرق كذلك. أو السحب التي نشرن الموات ففرقن بين من يشكر الله تعالى وبين من يكفر، كقوله: {لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16] {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} أي: الملائكة الملقيات ذكر الله إلى أنبيائه، المبلغات وحيه.
{عُذْراً أَوْ نُذْراً} أي: إعذاراً من الله لخلقه، وإنذاراً منه لهم، مصدران بمعنى الإعذار والإنذار، أي: الملقيات ذكراً للإعذار والإنذار، أي: لإزالة إعذارهم، وإنذارهم عقاب الله تعالى إن عصو أمره.
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} جواب القسم، أي: إن الذي توعدون به من مجيء القيامة والجزاء لكائن نازل، كقوله: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6]، أو من زهوق ما أنتم عليه من الباطل، وظفر الحق بقرنه، أو ما هو أعم. والأول أولى؛ لإردافه بعلاماته، بقوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} أي: محقت أو ذهب ضياؤها، كقوله: {انكَدَرَتْ} [التكوير: 2]، و{انتَثَرَتْ} [الانفطار: 2].
{وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ} أي: شققت وصدعت.
{وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} أي: اقتلعت من أماكنها بسرعة فكانت هباءً منبثاً.
{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} أي: أجّلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة للشهادة على أممهم والفوز بما وعدوه من الكرامة. والهمزة من {أُقِّتَتْ} مبدلة من الواو.
قال ابن جرير: وقرأه بعض قراء البصرة بالواو وتشديد القاف، وأبو جعفر بالواو وتخفيف القاف. وكل ذلك قراءات معروفات ولغات مشهورات بمعنى واحد، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب، غير أن من العرب من يستثقل ضمة الواو، كما يستثقل كسرة الياء في أول الحرف فيهمزها.
{لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} أي: أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب، أي: يقال: لأي يوم أجلت، فالجملة مقول قول مضمر، هو جواب: إذا، أو حال من مرفوع {أُقِّتَتْ} والمعنى ليوم عظيم أخرت أمور الرسل. وهو تعذيب الكفرة وإهانتهم، وتعظيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور ما كانت الرسل تذكره من أحوال الآخرة وأهوالها، ولذا عظم شأن اليوم، وهول أمره بالاستفهام. وقوله تعالى: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} بدل مما قبله، مبين له. أو متعلق بمقدر، أي: أجلت ليوم الفصل بين الخلائق. وقد قيل: لامه بمعنى إلى.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي: بين السعداء والأشقياء. والاستفهام كناية عن تهويله وتعظيمه.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي: بيوم الفصل، كما قال في سورة المطففين: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين: 11]، والتكذيب به إنكار البعث له والحشر إليه.
{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [16- 19]
{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} أي: الأمم الماضين المكذبين بالرسل والجاحدين بالآيات، كقوم نوح، وعاد، وثمود.
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} أي: من قوم لوط وموسى، فنسلك بهم سبل أولئك، وهو وعيد لأهل مكة.
{كَذَلِكَ} أي: مثل ذلك الأخذ العظيم.
{نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي: بكل من أجرم وطغى وبغى.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} قال ابن جرير: أي: بأخبار الله التي ذكرها في هذه الآية، الجاحدين قدرته على ما يشاء.
{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ} أي: من نطفة ضعيفة.
{فَجَعَلْنَاهُ فِي قرار مَّكِينٍ} أي: رحم استقر فيها فتمكّن.
{إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي: وقت معلوم لخروجه من الرحم.
{فَقَدَرْنَا} قرئ بالتخفيف والتشديد، أي: فقدرنا على ذلك أو قدّرناه {فَنِعْمَ الْقادرون وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي: بقدرته تعالى على ذلك، أو على الإعادة.
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً} قال ابن جرير: أي: وعاء. تقول: هذا كفْتُ هذا وَكَفِيتُهُ إذا كان وعاءهُ. والمعنى: ألم نجعل الأرض كفات أحيائكم وأمواتكم، تكفت أحياءكم في المساكن والمنازل فتضمهم فيها وتجمعهم، وأمواتكم في بطونها في القبور فيدفنون فيها؟ وجائز أن يكون عنى بقوله: {كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً} تَكْفِتُ أذاهُم في حال حياتهم، وجِيَفَهُمْ بعد مماتهم. انتهى.
والكفات إما اسم جنس لما يضم ويقبض، يقال: كفَتَهُ الله إليه أي: قبضه؛ ولذلك سميت المقبرة كَفتَةً وِكِفاتاً. ومنه الضمام والجماع، لما يضم ويجمع. يقال: هذا الباب جماع الأبواب.
وإما اسم آلة؛ لأن فعالاً كثر فيه ذلك. أو مصدر كقتال أَوِّل بالمشتق ونعت به، كرجل عدل. أو جمع كافت كصائم وصيام. أو كِفْت بكسر فسكون كقدح وقداح.
و{كِفَاتاً} منصوب على أنه مفعول ثان لـ: {نَجْعَلِ} أنها للتصيير، و{أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً} منصوبان على أنهما مفعولان به لـ: {كِفَاتاً}
قال الشهاب: وهذا ظاهر على كون {كِفَاتاً} مصدراً أو جمع كافت، لا على كونه اسم آلة فإنه لا يعمل، كما صرح به النحاة، وحينئذ فيقدر فعل ينصبه من لفظهِ، كما صرح به ابن مالك في كل منصوب بعد اسم غير عامل. وثمة وجوه أخر.
تنبيه:
في (الإكليل): قال الكيا الهراسي: عنى بالكفات الانضمام، ومراده أنها تضمهم في الحالتين، وهذا يدل على وجوب مواراة الميت فلا يرى منه شيء. وقال ابن عبد البّر: احتج ابن القاسم في قطع النباش بهذه الآية؛ لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ، فيكون حرزاً. انتهى.
ونقله القفّال عن ربيعة. وعندي أن مثل هذا الاحتجاج من الإغراق في الاستنباط وتكلف التماس ما يؤيد المذهب المتبوع كيفما كان، مما يعد تعسُّفاً وتعصُّباً، وبين فحوى الآية وهذا الاستنباط ما بين المنجد والمتهم. ومثله أخذ بعضهم من الآية السابقة {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} تأجيل القضاة الخصوم في الحكومات، ليقع فصل القضاء عند تمام التأجيل، كما نقله في (الإكليل) عن ابن الفَرَس. ومآخذ الدين والتشريع ليست من الأحاجي والمعميات. وبالله التوفيق.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} أي: جبالاً شاهقات {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً} أي: عذباً.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}
{انطَلِقُوا} أي: يقال لهؤلاء المكذبين بهذه النعم والحجج التي احتج بها عليهم يوم القيامة: انطلقوا {إِلَى مَا كُنتُم به تُكَذِّبُونَ} أي: من عذاب الله للكفرة والفجرة.
{انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} أي: فِرَق، وذلك دخان جهنم المرتفع من وقودها، إذا تصاعد تفرّق شعباً ثلاثاً، لعظمه.
قال الشهاب: فيه استعارة تهكمية لتشبيه ما يعلو من الدخان بالظل، وفيه إبداع، لأن الظل لا يعلو ذا الظل.
وقوله تعالى: {لَا ظَلِيلٍ} تهكم بهم؛ لأن الظل لا يكون إلا ظليلاً، أي: مظللاً؛ فنفيه عنه للدلالة على أن جعله ظلاً تهكم بهم، ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم، فنفي هذا الاحتمال بقوله: {لَا ظَلِيلٍ} {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهبِ} أي: لا يردّ عنهم من لهب النار شيئاً. والمعنى أنه لا يظلهم من حرّها ولا يكنّهم من لهبها.
{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أي: تقذف كل شررة كالقصر في عظمها، والقصر واحد القصور.
قال ابن جرير: العرب تشبه الإبل بالقصور المبنية، كما قال الأخطل في صفة ناقة:
كأنها بُرْجُ رُومِيّ يُشَيدُهُ ** لُزَّ بِجِصٍّ وآجُرَّ وأحْجَارِ

ثم قال: وقيل: {بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} ولم يقل: كالقصور. والشرر جمع، كما قيل: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} ولم يقل: الأدبار لأن الدبر بمعنى الأدبار؛ وفعل ذلك توفيقاً بين رؤوس الآي ومقاطع الكلام؛ لأن العرب تفعل ذلك كذلك وبلسانها نزل القرآن.
{كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ} وقرئ: {جمالات} جمع جمال، جمع جمل، أو جمع جمالة، جمع جمل أيضاً، ونظيرهُ: رجال ورجالات، وبيوت وبيوتات، وحجارة وحجارات.
{صُفْرٌ} أي: في لونها، فإن الشرار بما فيه من النارية يكون أصفر. وقيل: صفر أي: سود.
قال قتادة وغيره: أي: كالنوق السود، واختاره ابن جرير: زاعماً أنه المعروف من كلام العرب {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ} أي: بحجة، أو في وقت من أوقاته؛ لأنه يوم طويل ذو مواقف ومواقيت. أو جعل نطقهم كلا نطق، لأنه لا ينفع ولا يسمع فلا ينافي آية {وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، و{وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً} [النساء: 42]، و{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31]، {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي: لا يمهد لهم الإذن في الاعتذار، لعدم قبول معذرتهم بقيام الحجة عليهم. وإنما لم يقل: فيعتذروا؛ محافظة على رؤوس الآي. وقيل: هو معطوف على {يُؤْذَنُ} منخرط معه في سلك النفي، والمعنى: ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له، من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} أي: الحق بين العباد {جَمَعْنَاكُمْ} أي: حشرناكم فيه {وَالْأَوَّلِينَ} أي: من الأمم الهالكة.
{فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ} أي: احتيال للتخلص من العذاب {فَكِيدُونِ} أي: فاحتالوا له.
قال الزمخشري: تقريع لهم على كيدهم لدين الله وذويه، وتسجيل عليهم بالعجز والاستكانة.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي: فإنه لا حيلة لهم في دفع العقاب.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي: الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه {فِي ظِلَالٍ} أي: كنان من الحرّ والقرّ {وَعُيُونٍ} أي: أنهار تجري خلال أشجار.
{وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي: يرغبون، مقولاً لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ} أي: في طاعتهم وعبادتهم وعملهم.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} أي: حظكم حظ من أجرم، وهو الأكل والتمتع أياماً قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبداً.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} أي: اخضعوا لهذا الحق الذي نزل، وتواضعوا لقبوله، واخشعوا لذكره، {لَا يَرْكَعُونَ} أي: لا يخضعون ولا ينقادون ولا يقبلون، تجبراً واستكباراً.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي: الذين كذبوا رسل الله، فردوا عليهم ما بلغوا من أمر الله إياهم ونهيه لهم. وتكرير آية {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} للتأكيد، وهو من المقاصد الشائعة. وقيل: لا تكرار، لاختلاف متعلق كل منهما. وتقدم تمام البحث في سورة الرحمن، فارجع إليه في خاتمتها.
أي: بعد هذا القرآن، إذا كذبوا به، مع وضوح برهانه وصحة دلائله، في أنه حق منزل من عنده تعالى. وفيه تنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه، فضلاً عن أن يفوقه ويعلوه، فلا حديث أحق بالإيمان منه. اهـ.